0 تصويتات
بواسطة
دعوة إلى الاستغراب

في العادة يصل الباحث الغربي الجادّ إلى بلاد الشرق، من مغربها إلى مشرقها، وذلك حسب التصوّر الذي فُرِضَ علينا منذ قرون لوجهات الكرة الأرضية وتوجهاتها، وهو يحمل أدواته المنهجية مُزيّنةً ببعض الأفكار مسبقة التبلور، والتي لم تنضج بعد.

وغالباً ما يكون لديه استعدادٌ علمي للعودة عنها تماماً أو تعديلها جزئياً، حيث يبقى عقله وقلمُه منفتحين على تطوير المنهج والأداء في البحث وصولاً إلى النتائج. وفي حالات نادرة، تظهر بوضوح وسرعة إلى العلن، يُحتمل أن يصطحب الباحث الغربي نصف الجاد، أو أقلّه، تصوّراتٍ كاملةً لا تقبل الشك لما سيصل إليه في عين المكان. وبالتالي، هو سيسعى بكلّ ما أوتي من جلمود وإرادة ومناورة، للوصول إلى طريقة يُثبت من خلالها صحة ما سبق وحسم تفكيره به، أو حسمه له الآباء المؤسّسون للربع الفارغ من كأس علم الاستشراق الغربي. أي الربع الفارغ الذي تُنفِقُ فيه أغلب تعليقاتنا وانتقاداتنا جهودها الثمينة. هذا الباحث، إن صحّ التعبير، وهو لا يصحّ عموماً، يُعتبر من أصحاب الغايات مسبقة التحضير والإنتاج، وحتى الاستهلاك. غايات قاطعة في مساراتها ومآلاتها تكمن في قلب الباحث وعقله، وهي غالباً ما لا يعوّل عليها للاهتمام بالحديث عنه.

بالعودة إذاً والتركيز على الباحث الغربي الجادّ، وإن جرى سبرٌ دقيقٌ للمواضيع التي يعمل عليها في بلاد الشرق، من خلال قواعد المعلومات المتاحة للعموم، يُلاحظ أساساً، أنّ اهتمامه يحمل ظمأ معرفياً بالمنطقة التي يحطّ فيها، فهو يدرس أحوال ناسها وثقافتها واقتصادها وسياستها ومجتمعها وإلى آخره، ولربما لن يكتفي بذلك، موسّعاً بحثه إلى إقليم جغرافي يشمل البلد الذي احتضنه، ويُضيف إليه بلداناً مجاورةً لا يمكن له، نتيجة طبيعة أنظمتها الاستبدادية، أن يعمل في كنفها بجد واجتهاد، حيث كلّ أجنبي مُخبر، وحتى لو ثبت العكس، فبلادٌ قائمةُ على الإخبار وعلوم المخابرات، وما أكثرها في الشرق، سترى العطب في جموع الآخرين من دون استثناء، وكأنها تنظر إلى المرآة.

ويعتبر الضالعون بالأمر، وأكاد أجزم أنهم على حقّ، أن لا مكان علمياً مرموقاً للباحث الذي لا يتقن لغة المبحوث، والذي لا يُقيم ولو فترة قصيرة في الحيّز الجغرافي الذي يهتم به في دراساته وأبحاثه. وإن استحال الأمر من حيث الإقامة، وهو ما يحصل كما سبق وأشرت إليه في الأمنوقراطيات، فإنّ التمكّن من مفاتيح اللغة هو الحد الأدنى المطلوب. ومن خلال اللغة، يمكن للباحث قراءة (وفهم) الأدبيات المكتوبة بلغة المبحوث، وإجراء المقابلات مع من يمكن الوصول إليهم في بلاد المهجر أو اللجوء، أو ما تتيح وسائل التواصل الحديثة من الوصول إليه، وهو ما صار متاحاً بتسارع كبير في السنوات الأخيرة.

يُعاني شرقنا عموماً من الفقر المعرفي ببلدان الغرب ومجتمعاتها إلّا من رحم ربي وبسبب التاريخ الاستعماري الشرس والمطوّل الذي ربما يتميّز به بلد الباحث الغربي، يمكن له أحياناً، ولأسباب موضوعية، أن يقوم بدراسات في الشرق تتعلّق بهذا التاريخ غير المشرّف عموماً للبلد التي أتى منه. وهو غالباً ما يُقارب الموضوع بمنهجيةٍ علميةٍ وليس بخلفية عقائدية، حيث تُعتبر الدراسات التي أنتجها باحثون فرنسيون، مثلاً، من أهم ما كتب في نقد تاريخ ومنجزات (إن صحّ التعبير) الدولة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا وفي آسيا.

والباحث الشرقي من مغرب البلاد إلى شرقها، إن أُتيح له الوصول إلى الغرب إدارياً والتمكّن من الدراسة والبحث مالياً، فهو سيقوم بالبحث في موضوعٍ مرتبطٍ ببلد المنشأ، أي بلده الأم، مبتعداً عن التعمّق في فهم المجتمع المُضيف وتحليله. ولذلك الاختيار أسبابٌ عدة موضوعية لا يمكن محاسبة صاحبه على اعتمادها، أهمّها: أولاً، سيساهم المشرف الغربي في توجيهه لاختيار ما يرتبط ببلده الأصلي، لأن المشرف، غالباً، ما يكون مهتماً في أبحاثه بهذا البلد أو إقليمه. وبالتالي، فسيساعده الباحث الشابّ في تعميق المعرفة. وثانياً، يعتقد الباحث الشرقي أنه يملك ما يكفيه من الذخيرة المعرفية ببلده الأصلي، يُساعده في ذلك توجيه أستاذه المشرف، فيحلو له (مستسهلاً) استثمارها في إنجاز عمله. وثالثاً، لامتلاك بلد الدراسة أرشيفاً، غالباً ما يكون شديد الثراء والتنوّع عن بلد الباحث، لا يتوفّر فيها أصلاً. وأخيراً وليس آخراً، لتوجّه غالبية الدارسين في بلاد الغرب والآتين من الشرق إلى حقل التدريس لاحقاً، مبتعدين عن البحث العلمي البحت.

نتيجة ما تقدّم، وسواه الكثير، إذ يحتاج الموضوع إلى بحثٍ علمي موسّع، نجد أنّ شرقنا يُعاني عموماً من الفقر المعرفي ببلدان الغرب ومجتمعاتها إلا من رحم ربي، ولا نكلّ ولا نملّ من توجيه أصابع الاتهام، إعلامياً وجامعياً وأدبياً، نحو الاستشراق والمستشرقين، في حين لا نجد أدنى سببٍ لكي نستغرب ابتعادنا عن الاستغراب، وعدم سعينا إلى أن نكون مُستغربين، ولو لحقبة قصيرة نستطيع من خلالها الإلمام، ولو بحدود، بما يجري خارج أدمغتنا وقلوبنا، والذي يمكن له أن يزوّدنا بما يتيح لنا التعامل الندّي مع الآخر، من خلال فهمه، من دون معاداته والتحسّب منه والتشكيك فيه. إن هم استشرقوا، فاستغربوا.

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة
 
أفضل إجابة
دعوة إلى الاستغراب

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى البرهان الثقافي، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...